هل يمكن للمرء أن يبتهج فرحا أو أن ترتسم على محياه إبتسامة مشرقة وهو يصطحب
إلى المطار فلذة كبده أو قريبا له أو حبيبا ؟ حينما يجد نفسه أمام عبارة محتجة مزمجرة
ناهرة تشير (( المغادرون )) ؟ فيقف على مرمى الوجيب مودعا.
كيف يلوح بيده من دون أن تغرورق عيناه بدمعات سرية تتصنع التجلد وتتخفى في تجاويف
الجفون ؟ وكيف ينجح في حجب مشاعره الوجلة ويسلم من رهاب نزعتها؟ فيخضع اللحظة
لنبرة تلهج بمرح مزيف مزوق وبصوت يداري بين أوتاره شجن التهدج المستنفر بينما يشهد
تقلص المسافة بين الغادي إذ يخترق السحاب وبينه إذ يعود بوحشة خطى وحيدة تمط المسافات
لمدى يتسع بإتجاه البعد مسافة تحيل كل ما بينهما إلى ذكرى لا تلبث أن يكسوها صدأ الوقت
المعدني المذاق بعدما تأخذ ما بين يديهما وما أمام ناظريهما فتضمحل الأمكنة وتبهت الألوان
ويضيع الكلام .
كيف يستطعم البعض حلاوة الوداع وهو حالة مريرة المذاق ذو وطء صعب ثقيل على اللسان
والنفس والقلب . كل تجربة وداع هي مشروع فراق دائم وإن كان مؤقتا في حينه لكم كتب
علينا مكابدة الفراق وكم أخضعتنا الظروف لتكرار مشهد مزقنا وكم جلدتنا الأيام بسياط البعد
لكنها ابدا لم تنجح في إكسابنا شجاعة الصمود في حضرة اللحظة فلم نتمكن حرفية التكيف.
ما زالت لحظة الوداع تشملنا بألمها العميق وما زلنا نتقنع بشجاعة متهدجة فتهزمنا التلويحة
الأخيرة وتفضحنا الخطوة الأخيرة المتراجعة بإنكسار وتدمينا إيماءة ساهمة تتمنى السلامة
في النهاية وفي طياتها أمل بأن يختصر الزمن ليعود المغادرون سريعا فنغمرهم بالذراعين
ونحتويهم في الأحضان كم يلزمنا لتعلم آلية الإنسجام مع الوداع ونحن أبدا لا نرغب حتى
في التفكير بموعده ؟
فكيف تروض النفس على تنويعات الوداع وقد صار له مصطلحات منشودة وفلسفة لم نعتد على
حسناتها ؟ هو وداع مختلف له جماليات مذهلة نضمتها أمهات الجنوب الثكالى ونساؤه
الأرامل سطرنا بها أنموذجا أسطوريا جعلهن خارج منظومة هذا الكوكب العاثر دون حراك.
وداع ابتكرت تعاليمه أمهات أطفال الحجارة في فلسطين من قبل ثم الصابرات في العراق
وجنوبيات لبنان .
المدهش امهات ودعن كل أولادهن الوداع الأبدي ورأينا الواحدة تخرج من تحت الردم مخضبة
بالدم معفرة بالأشلاء لا تلبث أن تعلن عدد من فقدت ثم ترفع رأسها لتقول (( فدا أجرا
للمقاومة )) وتمضي بما لا تحسد عليه .
فمن أين جئن بكفاءة الإستعداد لوداع دائم مجهول ؟ وداع علمت بموعده القابلة العصرية
( كوندا ) داية الشرق الجديد وحددته بهداياها لإسرائيل وأمطار القنابل العنقودية المحرمة
لأمهات الجنوب لن تستوفى على المدى.
فطوبى لمن استودعن أحبابهن لدى من لاتضيع ودائعه براعم في عمر اللوز الأخضر وعرائس
مضمخات بعبق زهر الليمون طوبى لمن رصفت لهن جسورا مخضرة إلى السماء للقاء
في شغاف الجنان ....لقاء بلا وداع ولا فراق فلا وقت مناسب للفراق أبدا
(( لا وقت مناسب للفراق أبدا))